تناولت رسائل الواتساب تسجيل صوتي أبسط ما يوصف به أنه بذئ ولا يمت لأخلاق السودانيين بصلة، لأحد أفراد الأمن يُسِئ فيه لبعض السودانيين بالسعودية مستخدما الفاظا يَعِفُّ اللسان عن الإتيان بها، يتهمهم فيه بالتحريض علي المظاهرات ويطلب منهم الكف عن ذلك لأن المظاهرات، فيما معناه، أتعبتهم وأرهقتهم لأنهم (أي أفراد الأمن) تعبوا من ملاحقة المتظاهرين وهم في الأساس مرتاحين ماكلين شاربين مستمتعين بمباهج الدنيا وشهواتها وما عايزين شلهتة وجري من ميدان لميدان وزقاق لزقاق في مطاردة المتظاهرين.
أما التعليق المصاحب للتسجيل سئ الذكر الذي تم تداوله فقد جاء ساخرا وفطنا يعكس وعي السودانيين وقدرتهم علي قراءة مسار الأحداث علي أرض الواقع. فقد كان ملخص التعليق ومفاده (أن المظاهرات المستمرة جابت حقها بدري وكشفت الهزيمة المبكرة لجهاز محمد عطا أمام هتافات الجماهير الداوية).
لا شك أن الأمن من االأجهزة الهامة جدا والتي تنحصر مهامه في جمع المعلومات الاستخباراتية، وحماية البلاد من حالات التحريض الخارجي والتجسس بهدف حماية الوطن والمحافظة علي أمن وسلامة المواطنين بجانب حماية مؤسسات الشعب الديمقراطية وممتلكاته. ومن المفترض أن يخضع تعيين رئيس جهاز الأمن لنفس المعايير التي يتم بموجبها اختيار رئيس القضاء في ظل نظام ديمقراطي حقيقي يقوم علي الفصل التام بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. وأن يخضع التوظيف في جهاز الأمن، كما يحدث في كثير من البلدان المتقدمة لأسس ومعايير صارمة من أهمها الحصول علي درجات علمية رفيعة والتحلي بالخلق وحسن السير والسلوك. لكن في البلدان الديكتاتورية كالسودان، الجهل وسوء الأخلاق هي أهم المعايير التي يتم بموجبها اختيار أفراد الأمن، ويكون دور الجهاز الأساسي هو حماية السلطة الحاكمة والمحافظة عليها.
في حادث طريف في النصف الثاني من حِقبَة الثمانينيات اقتحم الطلاب السودانيين بمصر السفارة السودانية بقاردن سيتي واحتلوها لعدة أيام في نفس العام الذي اقتلع فيه تحالف القوي الديمقراطية الأخوان المسلمين من قيادة الاتحاد العام. جزء كبير من الطلبة والطالبات كان معتصما داخل السفارة والجزء الأكبر ظل مرابطا خارج السفارة جلوسا علي الأرض وكانت قوات الأمن المركزي تُطَوق السفارة والمعتصمين في شكل دائرة أمام السفارة. تقدمت إحدي الطالبات وهي تحمل ترمس شاي فارغ لأحد جنود الأمن المركزي وطلبت منه السماح لها بالذهاب لإحضار شاي فرآها أحد الضباط من بعيد وهي تتحدث مع الجندي فجاء مسرعا خوفا من أن تُحَرِّضَه وتَغسِل دِماغه، فدار هذا الحديث الطريف بين الضابط والطالبة المعتصمة والجندي:
الضابط: بتتكلمي مع مين؟
الطالبة: قلت ليهو عايزة أمشي أجيب شاي
الضابط: دا انتي بتتكلمي مع حد ما بفهمش
الضابط: ملتفتا للجندي، بتفهم إنت يا دفعة؟
الجندي: لا يافندم ما بفهمش
وعندما حكيت هذه القصة لأحد الأصدقاء بعد فترة ضحك حتي بانت نواجزه وسالت عيناه من شدة الضحك. وبعد أن هدأ سألني هل تعرف كيف يتم اختيار جنود قوات الأمن المركزي في مصر؟ فأجبته بالنفي. أفادني بأنهم بوقفوا كل المتقدمين صف واحد وبقوم الضابط بسألهم اللي بيعرف يقرأ ويكتب يمشي ناحية اليمين فيتقدم جزء من الصف إلي اليمين. طب اللي ما بعرفش يقرأ ويكتب يمشي ناحية اليسار فيتقدم جزء إلي اليسار. ويظل هنالك جزء واقفا متسمرا في مكانه كما وقف حمار الشيخ في العقبة لم يتحرك يمينا أو يسارا إما لعدم فهمه للسؤآل أو لأنهم لا يعرفون معني القراءة والكتابة من الأساس أو للإثنين معا، وهؤلاء هم الذين يتم اختيارهم. فالَّذين تقدموا ناحية اليمين قد فهموا السؤآل، وهم أيضا يعرفون القراءة والكتابة وبالتالي يمتلكون الأساس للوعي والاستنارة ويمكن أن يُشَكِّلٌوا خطرا علي السلطة الحاكمة يوما ما. ومن ذهبوا ناحية اليسار برغم أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة الا أنهم قد فهموا السؤآل، فهم إذن يتمتعون بالقدرة علي الفهم وبالتالي يمتلكون أيضا الأساس للوعي والاستنارة. أما الجزء الذي وقع عليه الإختيار فهو جاهلٌ بالقراءة والكتابة، وفي نفس الوقت قدرته علي الفهم ضعيفة جدا أو تكاد تكون معدومة، وهذا هو الصنف الذي تحتاجه الأنظمة الديكتاتورية.
لقد تبرع الأمنجي المعني بالتسجيل الصوتي سئ الذكر بالإفصاح عن اسم المكان الذي يُجَنِّدُون منه بعض أفراد أمن محمد عطا وهم في سن مبكرة من العمر، ويتولي جهاز الأمن بعد ذلك عملية تنشئتهم وتشكيلهم بالكيفية التي تكشف عنها الجرائم الوحشية التي يرتكبونها في حق المتظاهرين. لن نذكر اسم المكان في هذا المقال احتراما وتقديرا له وللرسالة السامية التي من المفترض أن يكون حاملا لها، والتي من المفترض أيضا أن تجد الرعاية والاهتمام والدعم الكامل من الدولة بدلا من أن تستخدمه الدولة نفسها كأحد مصادرها لصناعة الوحوش والمجرمين. هذا المصدر بالطبع ليس هو المصدر الوحيد لاختيار أفراد الأمن.
فطريقة اختيار جنود قوات الأمن المركزي في مصر هي بالتأكيد احدي الطرق المتبعة في السودان أيضا وإن اختلفت في بعض الأساليب والطرق والآليات الا أن الفلسفة واحدة وهي تجنيد عناصر علي شاكلة (لا يا فندم ما بفهمش ،،، ووقف حِمَارُ الشيخ في العقبة) يتم تدريبهم على أنهم كائنات لا تفهم غير الامتثال للأوامر بمنهج الطاعة المطلقة العمياء دون نقاش ودون أن يكون لهم القدرة علي فهم وتفسير حتي تصرفاتهم وهم ينفذون الأوامر.
صحيح أن أفراد الأمن خلال فترة تأهيلهم يتم غسل أذهانهم وإيهامهم بأنهم يقومون بحماية الدين والوطن والدفاع عنهما. لكن ما يتم تلقينه لهم يتم إعداده ومنهجته ومن ثم توصيله لهم بحيث لا يكون لهم القدرة علي استيعاب مفهوم الوطن خارج إطار النظام الحاكم. فالوطن في مفهومهم هو النظام الحاكم والأجهزة الحكومية الملتفة حوله والجهاز الأمني الذي يعملون فيه. وبالتالي فإن المعارضة السياسية بمختلف قواها واتجاهاتها في عقيدتهم هي العدو الرئيسي للوطن لأنها تواجه النظام وتُجَاهِر بِعَدَائها له وتسعي لإسقاطه.
صحيح أيضا أن هنالك أقسام من أفراد الأمن تنحدر من مناطق ريفية فقيرة وتدفعهم ظروفهم المادية القاهرة للالتحاق بالأمن، ومفهومهم للوطن في الحقيقة مفهوم بسيط لا يتعدي قُرَاهُم التي نشأوا فيها والقبيلة التي ينتمون لها وتقف درجة استيعابهم الذهني لمفهوم الوطن عند ذلك الحد لا تستطيع تجاوزه. يتم أيضا غسل أذهان هذه الأقسام بالضرب علي وتر القبيلة والدين وإيهامهم بأنهم يُدَافِعُون عن الدين والوطن ضد أعدائه ممثلين في قوي المعارضة.
فيلم البرئ بطولة المبدع المصري الراحل أحمد زكي، تأليف وحيد حامد، وإخراج عاطف الطيب جَسَّد هذه الشخصية الريفية في أحداث شيقة وأداء رائع. ولكن الحالة المصرية تختلف عن الحالة السودانية التي نحن بصددها.
فإذا كان أحمد سبع الليل (أحمد زكي) الشخص القروي البسيط الذي غسلت السلطة دماغه وأوهمته بأنه يدافع عن الوطن، وحولته لآلة قمع لضرب المعتقلين السياسيين قد مرت به أحداث ومواقف جعلته يتحوَّل ويتذوق لحظة التنوير عندما يدرك أنه في حقيقة الأمر لا يحارب أعداء الوطن، ويكتشف من هو السجين ومن هو السجَّان. فإن مثل هذه الأقسام التي تنضم بببساطتها وسذاجتها وفقرها لجهاز الأمن في الحالة السودانية من الصعب أن تمر بلحظة الوعي والتنوير لأن هنالك جانبا آخر لم يتطرق له فيلم البرئ، أو لم يكن في الحقيقة يُمَثِّل أحد الجوانب التي يعالجها الفيلم، ألا وهو الجانب المادي. فأحمد سبع الليل (أحمد زكي) عاش في قريته فقيرا وظل فقيرا حتي بعد انضمامه لقوات الأمن المركزي لأنه كان مجرد حارس في أحد المعتقلات النائية في الصحراء ولا يتجاوز راتبه الشهري وكل مخصصاته غير بضع جنيهات مصرية. ولكن في الحالة السودانية يتحول هذا الريفي البسيط من شخص فقير لشخص يمتلك سيارة وبيت واحد علي الأقل ويتقاضي راتب ومخصصات تفوق ما يتقاضاه الدكتور الجامعي بكثير، ويتم مكافأته وترقيته كلما كان عنيفا ووحشيِّا في التصدي للمظاهرات. وبالتالي تصبح مسألة تمسكه بالنظام والدفاع عنه مسألة طبقية بحتة. لأن موقعه الطبقي الجديد ومصلحته الخاصة أصبحت مرهونة ببقاء هذا النظام ولذلك فهو سيدافع عنه بقوة.
ضباط الأمن، من أقل رتبة إلي أعلي رتبة لا يقَلون عنفا ووحشية عن الجنود. فهم الذين يصدرون الأوامر بالقمع والبطش والاعتقال والتعذيب. وهم الأكثر حرصا علي بقاء النظام لارتباط مصالحهم الطبقية به. فضباط الأمن يتقاضون رواتب ومخصصات عالية جدا إن لم تكن هي الأعلي في السودان كله، بالإضافة إلي الإكراميات والامتيازات والتسهيلات التي يحصلون عليها من الجهاز ومن المشير شخصيا باعتباره المتحكم الفعلي في جهاز الأمن. والأمن هو الذي يتحكم في تجارة العملة وفي منح الأراضي الاستثمارية وله العديد من الشركات والاستثمارات داخل وخارج السودان. لكنهم (أي ضباط الأمن) يعيشون حالة أقرب وأشبه بحالة إزدواج الشخصية وتعددها أو ما يُعرَف في علم النفس بانفصام الشخصية والذي يعبِّر عن حالة من حالات الإضطراب النفسي التي توجد فيها علي أرض الواقع أكثر من شخصية بكامل سِمَاتِها وخصائصها وطبائعها الظاهرة للعيان لدى الكائن البشري الواحد ولكن لا تظهر في كل حالة من حالات الإنفصام إلا شخصية واحدة. يعيشون في بيوتهم مع أسرهم وأقربائهم وأصدقائهم بشخصية يبدو عليها اللطف والرقة والوقار ولكنهم يتحولون إلي وحوش بشرية مع المعارضين داخل المعتقلات. لا يخضعون لأي قِيَم أو وازع غير إرضاء قادتهم والمحافظة علي النِعَم التي يغدقونها عليهم، فيبالغوا في التنكيل بالمعارضين والمتظاهرين لا يفرقون بين رجل وإمرأة أو طفل وشاب أو شيخ طاعن في السن. يظهرون بياقاتهم الوردية الزاهية ويبدو عليهم الوقار وعلي جباههم سمات لصلاة لم تنهيهم عن فحشاء أو منكر ولكن في داخل كل واحد منهم قاتل محترف لا يرحم ومجرم معدوم الضمير.
فليس هنالك في الحقيقة برئ، ليس فقط في جهاز أمن محمد عطا، بل في كل أجهزة الأمن التي صاحبت الديكتاوريات العسكرية التي حكمت السودان ولذلك فقد كان من أولي مطالب الجماهير في ثورة أكتوبر 1964م هو تطهير وزارة الداخلية التي كان يتبع لها قسم البوليس السري الذي يمثِّل جهاز الأمن وقتها. وقد كان أيضا من أولي مطالب الجماهير في انتفاضة مارس/أبريل 1985م هو حل جهاز الأمن. وسوف يكون نفس المطلب من ضمن أولي مطالب الثورة القادمة التي تخوض الجماهير غِمَارهَا اليوم.
أما الشرطة فهي تختلف إختلاف جذري عن جهاز الأمن. فلم يحدثنا تاريخ السودان الحديث عن جهاز أمن أو حتي عناصر منه قد وقفت مع الجماهير لحماية ثورة أو انتفاضة شعبية. ولكن حدثنا التاريخ كثيرا عن وقوف العناصر الوطنية داخل الشرطة مع الجماهير في ثورة أكتوبر وانتفاضة مارس/أبريل. ونفس العناصر الوطنية ستقف مع الجماهير في ثورتها القادمة لا محالة. صحيح أن هنالك عناصر في الشرطة خاصة بين كبار الضباط ترتبط مصالحهم بالنظام وتحرص علي بقائه في السلطة لأنهم إرتبطوا بالأخوان المسلمين واستفادوا من هذا الارتباط بالحصول علي رُتَب عُليَا ومخصصات وامتيازات وتسهيلات خاصة غير متاحة لزملائهم من نفس الرُتَب العسكرية من أمثال العقيد طلال سيف اليزل (كادر الحماية السابق في تنظيم الأخوان المسلمين) الذي قاد قوة الشرطة التي تصدت بالقمع المفرط لموكب الثلاثاء 16 يناير 2018م والذي ظهر أمامه شرطيان يضربان متظاهرا سلميا أعزلا بالسياط. لكن الغالبية العظمي من ضباط الشرطة وجنودها غير المرتبطين عقائديا بالكيزان ليس لهم مصلحة حقيقية في بقاء هذا النظام لأنهم يُعَانُون نفس المعاناة التي يعيشها المواطن ويتأثرون بغلاء المعيشة مثلهم. وحتي الحوافز التي تُقدم لهم نظير فَضهم للمظاهرات حوافز زهيدة جدا وموسمية.
وبنفس المستوي فإن غالبية عساكر الشرطة يقومون بالتعرض للمتظاهرين تنفيذا للأوامر ليس إلا وكغيرهم من المواطنين يعانون الغلاء وشظف العيش. لذلك من التعليقات الطريفة التي تداولتها الأسافير علي خلفية انتشار فيديو ضرب المتظاهر السلمي الأعزل المذكور بالسياط ويعبِّر بكل ببساطة عن حالة الارتباط بين الشرطي والمواطن في هم المعيشة والهم العام. فقد جاء التعليق في قمة الظرافة والسخرية ،،، (واحد بشتري العيشة بجنيه، بضرب واحد بشتري العيشة بجنيه، عشان يحمي ناس شايلين العيش مجان ،،،).
فمثل هذه الأقسام من قوات الشرطة ستتحول مواقفهم في لحظات الفِعل الثوري الفاصل وسيقومون بحماية المتظاهرين والمشاركة في إنجاح الثورة كما فعلوا في مارس/أبريل 1985م حيث تحولت سيارات الشرطة التي كانت تُطَارِد المتظاهرين إلي وسائل نقل تحمل المتظاهرين وتجوب بهم الشوارع وهم يهتفون.
alhadihabbani@hotmail.com